الإثنين, نوفمبر 3, 2025
الرئيسيةأحدث الأخبارتداعيات زيارة مدير المخابرات الإثيوبي للسودان وأبعادها الجيوسياسية

تداعيات زيارة مدير المخابرات الإثيوبي للسودان وأبعادها الجيوسياسية

سودان تمورو:

في خضم عواصف التحولات الإقليمية المحتدمة في منطقة القرن الأفريقي، تكتسب زيارة مدير جهاز المخابرات الإثيوبي رضوان حسين إلى بورتسودان أهمية استثنائية، ليس فقط لكونها جاءت بعد فترة طويلة من التوتر والصمت الدبلوماسي بين البلدين، بل لأنها مثّلت تحولًا لافتًا في لغة التواصل الإثيوبي تجاه السودان، من نهج التلويح إلى منطق التفاهم، ومن ظلال العداء إلى بصيص الشراكة الأمنية.

هذه الزيارة لم تكن مفاجئة في توقيتها فحسب، بل في طابعها العلني ورسائلها المركبة. فخلافاً للطابع السري التقليدي الذي يلف تحركات مسؤولي الاستخبارات في الإقليم، قررت أديس أبابا تسليط الضوء عليها، مما يشي برغبة في توجيه خطاب سياسي متعدد المستويات.. داخلي يُطمئن الإثيوبيين أن الدولة ممسكة بزمام الأمن الإقليمي، وإقليمي يضع السودان مجددًا ضمن دوائر النفوذ الإثيوبي، ودولي يظهر إثيوبيا كفاعل عقلاني يسعى للتهدئة وليس التصعيد.

الملفات التي حملها الوفد الإثيوبي تتجاوز حدود “التعاون الأمني”، فهي تشمل طموحات استراتيجية عميقة ترتبط بإعادة رسم الخرائط السياسية للمنطقة. إثيوبيا، التي خرجت من حرب أهلية مريرة في إقليم تيغراي، تدرك تماماً أن انفجار السودان قد يشكل تهديدًا مباشرًا لتوازناتها الداخلية، خاصة في الأقاليم الحدودية المتداخلة عرقياً وأمنياً. كما أن بقاء الوضع مفتوحًا في السودان سيمنح خصوم أديس أبابا الإقليميين – لا سيما إريتريا – فرصة للتلاعب بأوراق المعارضة وتغذية عدم الاستقرار عبر الحدود.

ومن جانب السودان، تأتي هذه الزيارة في لحظة حرجة تمر بها البلاد بين سندان الحرب ومطرقة الضغوط الدولية. النظام في بورتسودان يبحث عن إعادة تموضع إقليمي يعيد إليه بعض السيطرة الرمزية على المشهد، ويبعث برسائل مفادها أنه ما زال شريكًا صالحًا في ترتيبات الأمن الجماعي في القرن الأفريقي. لذلك، فإن استقبال رضوان حسين لا يُقرأ فقط كخطوة دبلوماسية، بل كمؤشر على إعادة فتح قنوات كانت مجمدة، وفرصة لتحويل التنافس الحدودي والنهري إلى مساحات تنسيق ظرفي.

لكن ما بين طيات هذه الانفراجة تكمن تعقيدات يصعب تجاوزها بزيارة واحدة. فالتحالفات الإقليمية المتضاربة تضع كل تفاهم على المحك. السودان المنفتح على مصر وإريتريا يجد نفسه على طاولة واحدة مع إثيوبيا، التي تحتفظ بعلاقات استراتيجية مع أطراف إقليمية خصيمة كالإمارات. وهنا يصبح التفاهم الأمني عرضة للانهيار في حال رُصد أي دعم إثيوبي – مباشر أو غير مباشر – لقوى متمردة أو فاعلين مناوئين للخرطوم.

أما الاقتصاد، فله حسابات أكثر براغماتية. إثيوبيا، الدولة الحبيسة، تسعى منذ سنوات للحصول على منفذ بحري دائم، وتدرك أن السودان – رغم اضطرابه – يظل خياراً مطروحًا عبر بوابة بورتسودان. لكن الخرطوم، المُثقلة بالحرب والانقسام، لا تملك ترف التنازلات المجانية. أي تفاهم في هذا السياق سيكون مرهونًا بصفقة سياسية كاملة تضمن السيادة السودانية وتمنع أي اختراقات مستقبلية في ملف الحدود أو مياه النيل.

وفي الخلفية، لا يمكن تجاهل البُعد الجيوسياسي الأوسع. إثيوبيا تحاول إعادة صياغة صورتها في محيطها، من دولة مصدر للأزمات إلى وسيط موثوق. فبعد أن قاد آبي أحمد وساطة جزئية بين الخرطوم وأبوظبي، تحاول أديس أبابا تثبيت أقدامها كضامن للاستقرار في لحظة ترتفع فيها حرارة النزاعات، من اليمن إلى البحر الأحمر، ومن جنوب السودان إلى الساحل الإريتري.

لكن مفتاح هذا التحول لا يكمن في التصريحات أو الزيارات، بل في ترجمة النوايا إلى التزامات مستدامة. فالمشهد السوداني متحرك، غير مستقر، قابل للانفجار في أي لحظة. والذاكرة السودانية لا تنسى بسهولة ما اعتبرته “تواطؤًا إثيوبيًا” مع بعض الفصائل، ولا تزال تراقب عن كثب سلوك أديس أبابا في ملفات الدعم والاحتضان السياسي.

في المحصلة، فإن زيارة مدير المخابرات الإثيوبي لا يمكن فصلها عن المعركة الأكبر على النفوذ الإقليمي. هي ليست مجرد زيارة مجاملة، بل حركة محسوبة على رقعة الشطرنج الجيوسياسية، حيث لكل خطوة ثمن، ولكل تقارب مخاطره. وفي هذا السياق، على السودان أن يتحرك بوعي لا يلدغ من ذات الجحر مرتين، وعلى إثيوبيا أن تدرك أن الرهانات قصيرة المدى لا تصنع استقرارًا طويل الأمد.

المنطقة اليوم لا تحتمل مزيدًا من المغامرات، ولا تسامح مع الخطابات الرمادية. الأمن الحقيقي يبدأ من الاعتراف المتبادل بالمصالح لا بتغليفها بالشعارات. ففي القرن الأفريقي، لا تُترجم النوايا إلا بلغة المصالح المضمونة… وكل ما عدا ذلك ضجيج دبلوماسي سرعان ما يتبخر مع أول نسمة صراع جديدة.

مقالات ذات صلة

ترك الرد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

- Advertisment -<>

الأكثر شهرة

احدث التعليقات

عبدالقادر النصري عبدالقادر على اعلان تفاصيل استخراج الشهادة السودانية 2023
عبدالقادر النصري عبدالقادر على اعلان تفاصيل استخراج الشهادة السودانية 2023
مكاوي الغالي محمد علي على مبادرات وتبرعات لمساعدة متضرري الحرب