سودان تمورو:
في زمنٍ أصبحت فيه المناصب مطيةً للنفوذ ومسرحاً للمساومات، جاء قرار السفير عمر صديق بالاستقالة من منصبه كوزير دولة بوزارة الخارجية ليصنع فارقاً أخلاقياً قبل أن يكون حدثاً سياسياً. لم تكن استقالته هروباً من المسؤولية ولا انسحاباً تحت ضغط العجز، بل كانت صرخة مدوية ضد عبث اللوبيات وتغوّل الشلليات التي حوّلت مؤسسات الدولة إلى مزارع خاصة ومجالات نفوذ ضيقة.
هذا الدبلوماسي الذي أمضى أكثر من أربعة عقود في خدمة السودان، من بكين إلى الخرطوم، رفض أن يكون مجرد واجهة لقرارات تملى من خارج المؤسسات. رفض أن يشارك في مسرحية عبثية يديرها رجال أمن ومستشارون جاءوا من جنيف محمّلين بحساباتهم القديمة ورغبتهم في توظيف الأصدقاء وتصفية الخصومات. حين حاولوا تغيير وكيل الوزارة لأسباب شخصية، وحين سعوا لتمرير تعيينات وتبديلات عبر الهاتف والهمس لا عبر المكاتبات الرسمية، قال صديق كلمته بالفعل لا بالقول: الاستقالة هي الرد.
إن أخطر ما تكشفه هذه الخطوة هو أن الأزمة في السودان لم تعد أزمة كفاءات بقدر ما هي أزمة تدخلات، وأن مؤسسات الدولة تُختطف من الداخل لصالح مصالح ضيقة. حين تُدار وزارة الخارجية ــ وهي بوابة السودان إلى العالم ــ بهذا القدر من العبث، فما الذي يُترك لبقية الوزارات؟ حين يتحول المنصب العام إلى غنيمة تُوزّع على “أصدقاء جنيف”، فكيف يمكن أن نتحدث عن بناء دولة حديثة؟
استقالة عمر صديق لم تُضعف الدبلوماسية السودانية، بل على العكس من ذلك أعادت لها شيئاً من الاعتبار، لأنها أثبتت أن هناك من يضع المبدأ فوق المنصب، والكرامة فوق الكرسي. لقد فضّل الرجل أن يغادر مرفوع الرأس، بدلاً من أن يبقى رهينة لقرارات تُهين المؤسسة وتفرغها من مضمونها.
الرسالة واضحة: السودان لن ينهض ما لم تُستأصل هذه الآفة ــ آفة الشلليات واللوبيات ــ التي تنخر في جسده منذ عقود. الوزارات ليست ملكاً خاصاً لأحد، ولا مقاعدها إرثاً يُوزّع بالوساطة. إنها مؤسسات عامة، وقوتها من قوة استقلالها واحترام لوائحها.
تحية للسفير عمر صديق، لأنه قال “لا” في زمنٍ يكثر فيه “نعم”، ولأنه اختار الوطن على المنصب، والمبدأ على المكاسب. وتبقى الكرة في ملعب من يظنون أن السلطة غنيمة، علّهم يدركون أن استباحة المؤسسات ليست سوى طريق قصير نحو انهيار الدولة.