خاص سودان تمورو
الفاشر اليوم ليست مدينة محاصرة فحسب، بل هي مرآة قاسية تعكس انهيار الضمير الإنساني في زمن يُفترض أنه زمن الحضارة والعدالة. يموت مواطنها مرتين كل يوم: مرة برصاص المليشيات على الأطراف، ومرة أخرى بالجوع والبرد والقصف في الداخل. موت بطيء وسريع في آن واحد، موت لا يفرق بين طفل وامرأة وشيخ، موت يكشف أن العالم قد اعتاد صور الدماء حتى صارت مجرد خبر عابر في نشرات الأخبار.
ما يجري في دارفور ليس نزاعاً داخلياً محدوداً كما يروّج البعض، بل هو جريمة حرب مكتملة الأركان، تُرتكب أمام أعين الأمم المتحدة، ومجلس الأمن، والعواصم الكبرى. الجريمة ليست فقط في من يطلق الرصاص أو يحاصر الغذاء، بل في صمت من يملكون القدرة على إيقاف هذه المأساة ويختارون الاكتفاء بالبيانات الجوفاء. هنا يصبح الحياد خيانة، والصمت تواطؤاً، واللامبالاة مشاركة في القتل.
النساء يتركن في العراء بأطفالهن الجائعين، الشيوخ يخرّون واحداً تلو الآخر على الطرقات، البيوت تُهدم فوق ساكنيها، والمستشفيات تتحول إلى مقابر جماعية بعد أن عجزت عن استقبال المزيد من الضحايا. ومع ذلك، يستمر العالم في ممارسة عجزه الإرادي، وكأن الفاشر تقع خارج حدود الإنسانية.
إن ما يحدث في هذه المدينة المنكوبة يفضح ازدواجية المعايير الدولية، حيث تتحرك الآلة الدبلوماسية بسرعة حين تتضرر مصالح الكبار، لكنها تلتزم الصمت حين تكون الضحية شعباً ضعيفاً لا يملك سوى الصراخ والدموع. الفاشر اليوم ليست بحاجة إلى بيانات، بل إلى موقف حقيقي يوقف نزيفها المستمر.
كم من الوقت سيظل العالم يتعامل مع دارفور كأنها مجرد رقم في تقارير المنظمات؟ وكم من طفل يجب أن يسقط صريع الجوع أو الرصاص حتى يفهم المجتمع الدولي أن الإنسانية كلٌّ لا يتجزأ؟ إن السكوت لم يعد خياراً، بل صار جريمة أخلاقية.
الفاشر تنادي، ودماء أبنائها تصرخ في وجه عالم أصمّ. والعار سيلاحق كل من اختار التواطؤ بالصمت. فالتاريخ لا ينسى، والإنسانية حين تنهار في بقعة ما، فإنها تهددنا جميعاً.