سودان تمورو:
أصدر الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، اليوم الاثنين، عفواً رئاسياً عن الناشط السياسي المصري علاء عبد الفتاح البالغ 43 عاماً، والذي يمثل رمزاً حياً للحراك السياسي في مصر، ومرآة تعكس التحولات التي شهدتها البلاد منذ ثورة يناير 2011.
يمثل عبد الفتاح حالة متداخلة من النشاط الرقمي والسياسي والعائلي في مصر المعاصرة؛ فهو ناشط من بيئة حقوقية، شارك بفعالية في مطالب الثورة والتغيير، وتعرّض لمضايقات واعتقالات متكررة ومحاكمات أثارت انتقادات دولية بشأن حرية التعبير ومحاكمة المعارضين. ملفاتّه المتعددة وأحكامها المتغيرة طوال السنوات الأخيرة جعلت قضيته رمزاً في نقاشات الحقوق والحريات داخل مصر وخارجها. كما يُعدّ علاء أحد الوجوه البارزة التي ارتبطت بالثورة، وساهمت في تشكيل الوعي العام في سنوات ما قبلها. فقد بدأ نشاطه في سن مبكرة، مستخدماً أدوات العصر بالتدوين والإنترنت، لمواجهة قمع نظام حسني مبارك. ولم تكن مواقفه مجرد كلمات، بل كانت أفعالاً جسّدت إيمانه بالحق في التعبير والاحتجاج السلمي.
وُلد علاء عبد الفتاح في عام 1981، ونشأ في بيت لم يعرف الحياد. والده، أحمد سيف الإسلام، كان محامياً وناشطاً حقوقياً كرّس حياته للدفاع عن المعتقلين، ووالدته، الدكتورة ليلى سويف، شخصية أكاديمية بارزة لا تهدأ عن المطالبة بالحقوق المدنية. شقيقتاه منة وسناء حملتا بدورهما شعلة الدفاع عن الحرية، ودفعتا أثماناً من حياتهما وحريتهما.
في هذا المناخ، تفتّح وعي علاء. كان من الطبيعي أن ينخرط في الشأن العام، وأن يربط بين اهتمامه بالبرمجيات الحرة ومفهوم الحرية السياسية. منذ بدايات الألفية الجديدة، أسّس مع آخرين مدونة “MANALAA” ومنتديات رقمية ساعدت الشباب على تبادل الأفكار بعيداً عن رقابة الإعلام الرسمي.
وتُظهر سيرة علاء المهنية جانباً آخر من شخصيته: فهو مبرمج ومطور برمجيات موهوب، وقد كان من أوائل من ترجموا أدوات الإنترنت مفتوحة المصدر إلى اللغة العربية، في محاولة منه لتمكين مجتمعه وتزويده بالمعرفة. وقد تزوج من المدونة منال حسن، وأنجب منها ابنه الوحيد خالد، الذي سُمّي تيمناً بـ”خالد سعيد”، الشاب الذي فجر موته شرارة ثورة يناير.
لم يكن علاء مجرد مشارك في ثورة 25 يناير/كانون الثاني 2011، بل كان واحداً من أبرز مهندسيها الإعلاميين. ففي الوقت الذي كانت فيه الأقنية الإعلامية التقليدية عاجزة عن تغطية الأحداث، كان علاء يوثّق ما يحدث في ميدان التحرير لحظة بلحظة عبر منصات التواصل الاجتماعي، موجّهاً رسائل للداخل والخارج.
لم يكن يرى في الثورة مجرد حدث عابر، بل كان يؤمن بأنها عملية مستمرة. وبعد نجاح الثورة في إسقاط مبارك، كان من أوائل من طالبوا بمحاسبة قتلة المتظاهرين، مؤكداً أن العدالة هي أساس أي تغيير حقيقي. كما كان من أشد المنتقدين للمجلس العسكري الذي تولى الحكم بعد الثورة، رافضاً أن يُفرض على الشعب دستور لا يخدم مصالحه.
علاء عبد الفتاح والسجون
على مدار العقد الأخير، قضى علاء عبد الفتاح معظم وقته في السجون المصرية، في قضايا وصفها المدافعون عن حقوق الإنسان بأنها ذات طابع سياسي. بدأت رحلته مع الاعتقال بعد أشهر قليلة من الثورة، عندما ألقي القبض عليه بتهمة التحريض على العنف في أحداث ماسبيرو، لكن سرعان ما أُطلق سراحه بعد أشهر قليلة. وكانت الضربة القاضية في عام 2013، عندما ألقي القبض عليه بتهمة تنظيم مظاهرة غير مرخصة. وفي عام 2015، حُكم عليه بالسجن خمس سنوات، بالإضافة إلى خمس سنوات مراقبة، وهي فترة تضمنت حتمية وجوده في قسم الشرطة يومياً لساعات طويلة. بعد انتهاء محكوميته عام 2019، أُعيد حبسه بعد أشهر قليلة فقط، في إطار حملة اعتقالات واسعة النطاق.
وفي ديسمبر/كانون الأول 2021، صدر حكم جديد بسجن علاء عبد الفتاح لمدة خمس سنوات بتهمة “نشر أخبار كاذبة”، وهي تهمة اعتُبرت ذريعة لإبقائه خلف القضبان. وتتعدد الشهادات حول ظروف اعتقاله، التي تتراوح بين الحبس الانفرادي والحرمان من الزيارة والكتب، مما أدى إلى تدهور حالته الصحية. وفي عام 2022، أعلن علاء دخوله في إضراب عن الطعام احتجاجاً على ظروف احتجازه، مما أثار ضجة إعلامية عالمية وتضامناً واسعاً من منظمات حقوق الإنسان والحكومات الغربية.
لم تبقَ قضية علاء، محصورة في حدود مصر. وبصفته يحمل الجنسية البريطانية دخلت لندن على خط المطالبة بتمكين قنصليتها من زيارته. كما أن منظمات مثل “هيومن رايتس ووتش” و”العفو الدولية” و”لجنة حماية الصحفيين” تبنّت ملفه باعتباره مؤشراً على حال الحريات في مصر. وتصدر اسم علاء العناوين في مؤتمرات دولية، وخصوصاً أثناء قمة المناخ “كوب 27” التي استضافتها شرم الشيخ عام 2022، حيث رُفعت صور له وطُلب من قادة العالم الضغط على القاهرة للإفراج عنه.
ولطالما تبنت منظمات مثل “الصحافة من أجل الحماية” و”البين” و”اللجنة الدولية لحماية الصحفيين” بالإضافة لحقوقيين بريطانيين وأوروبيين مطالب الإفراج عنه وإتاحة الوصول القنصلي، خصوصاً لكونه يحمل جنسية بريطانية أيضاً. كما قُدمت نداءات للإفراج وإشارات إلى إلزامية احتساب مدد الحبس الاحتياطي عند احتساب مدة العقوبة. كما تابعت وسائل إعلام دولية وإقليمية معاناته وإضرابه عن الطعام في فترات سابقة كوسيلة احتجاج ضد سجنه وظروفه.
ولم يكتف علاء بالاعتراض القانوني. ولجأ أحياناً إلى سلاح الإضراب عن الطعام، محاولاً لفت الأنظار إلى معاناته ومعاناة آلاف السجناء السياسيين الآخرين. عائلته، التي لم تتوقف يوماً عن طرق الأبواب، نقلت إلى الإعلام العربي والدولي تفاصيل دقيقة عن تدهور صحته الجسدية والنفسية. وأعلن عبد الفتاح، أكثر من مرة، دخوله في إضراب عن الطعام احتجاجاً على ظروف احتجازه، وللمطالبة بالسماح للقنصلية البريطانية بزيارته، وهو ما أثار ضجة إعلامية عالمية وتضامنًا واسعًا من منظمات حقوق الإنسان والحكومات الغربية.
وبالتوازي مع إضرابه، أعلنت والدته، ليلى سويف، دخولها في إضراب عن الطعام، بدأته في أواخر سبتمبر/أيلول 2024، احتجاجاً على استمرار حبس نجلها، رغم انتهاء فترة محكوميته القانونية. ثم أنهته بعد نحو عشرة أشهر، وتحديداً في 14 يوليو/تموز 2025، بعد تدهور حالتها الصحية، وفي أعقاب مناشدات من أسرتها. كما اعتصمت سويف مراراً أمام السجون للمطالبة بحق ابنها في الزيارة أو في كتاب يدخل إليه.
في الخارج، لم تتوقف جهود عائلة علاء. فقد قادت شقيقته، الناشطة سناء سيف، حملة تضامن دولية واسعة، مستغلة وجودها في أوروبا للالتقاء بالمسؤولين والصحافيين، والمشاركة في المؤتمرات الدولية. كما لعبت شقيقته الأخرى، منى سيف، دورًا محوريًا في توثيق الانتهاكات التي تعرض لها علاء وعائلته، ونشرها على نطاق واسع عبر وسائل التواصل الاجتماعي. وحتى في أشد اللحظات قسوة، ظلوا يرددون أن معركتهم ليست فقط من أجل علاء، بل من أجل حرية جيل كامل.
وبفضل جهود العائلة، تحولت قضية علاء إلى قضية رأي عام عالمي، ووضعت السلطات المصرية في موقف حرج، مما دفع العديد من الحكومات الغربية، مثل بريطانيا وألمانيا، إلى الضغط على مصر من أجل الإفراج عنه. ومع اقتراب موعد إطلاق سراحه المرتقب، يبقى علاء عبد الفتاح رمزاً حياً لصوت جيل آمن بالتغيير. فما دفع به سنوات سجنه ليست مجرد كلمات، بل إيمان بأن الحرية تستحق النضال، وأن الثمن لا يقاس بالسنوات، بل بالأمل الذي يزرعه في نفوس من آمنوا بقضيته.
العربي الجديد