سودان تمورو:
كتاب كمال الجزولي (٢٠١٠، مدارك) «عتود الدولة: ثوابت الدين أم متحركات التدين؟» يُعد من أبرز محاولاته الفكرية في نقد العلاقة الملتبسة بين الدين والدولة في السودان والعالم العربي الإسلامي.
يطرح الكتاب سؤالًا جوهريًا: هل الدولة الحديثة تستند إلى ثوابت دينية جامدة لا تقبل المراجعة، أم أنها تُبنى على متحركات التدين، أي اجتهادات بشرية متغيرة بتغير الزمان والمكان؟
في زمن الحرب السودانية الراهنة، حيث تُرفع الشعارات الدينية لتبرير صراع دموي، تكتسب أفكار كمال الجزولي أهمية مضاعفة. فالدين لا ينبغي أن يكون وقودًا للحرب، بل مصدرًا للأخلاق والعدل. والدولة لا تُقدّس، بل تُحاسب.
بذلك يصبح الكتاب أداة فكرية لفهم جذور الأزمة السودانية، ورسالة مبكرة لإعادة تأسيس الدولة على قيم الحرية والعدالة والتعددية.
المقدمة
في صدر كتابه «عتود الدولة: ثوابت الدين أم متحركات التدين؟» (مدارك، ٢٠١٠)، يضع الكاتب كمال الجزولي إهداءً إلى عبد الخالق محجوب، سكرتير الحزب الشيوعي السوداني الذي أُعدم عقب انقلاب يوليو ١٩٧١. هذا الإهداء لم يكن مجرد لفتة شخصية، بل “إعلان موقف””: أن الكتاب جزء من معركة فكرية ممتدة ضد الإسلاموية السياسية، ومن أجل دولة مدنية تستلهم قيم العدالة والحرية.
ويشرح كمال الجزولي فكرته المركزية بوضوح حين يقول:
«بين بداوتنا المسلمة وحياتنا المدنية نمحق بلا هوادة “صحيح الدين” لحساب “متخيَّل الدين”.»
وهي عبارة تختصر جوهر أطروحته: أن أزمة السودان لم تكن في الدين ذاته، بل في توظيف صور متخيلة منه لتغطية مصالح السلطة، بينما أُهمل الصحيح الذي يقوم على العدل والتفكر.ً
بهذا الإهداء وتلك المقدمة يربط كمال الجزولي مشروعه الفكري بسؤال عبد الخالق القديم: كيف نبني دولة حديثة في السودان تتسع للتعدد وتحترم الدين دون أن تُختطف باسمه؟ ومنذ صدور الكتاب قبل أكثر من عقد، ظلّت أسئلته تتجدد مع كل منعطف، حتى وجد كمال الجزولي نفسه في منفاه بالقاهرة عام ٢٠٢٣ يشهد اندلاع الحرب بين جيش الإسلاميين وقوات الدعم السريع، قبل أن يرحل في نوفمبر من العام نفسه.
الكتاب إذن ليس نقاشًا نظريًا مجردًا، بل شهادة مبكرة على أزمة السودان المستمرة: هل نبني دولة على ثوابت الدين التي لا تقبل الجدل، أم على متحركات التدين التي تتفاعل مع الزمن والمكان؟ وكيف نضمن أن يظل الدين مصدرًا للأخلاق والعدل لا أداة للاستبداد والحرب؟
الملخص التفصيلي
الفصل الأول: مفهوم الثوابت ومتحركات التدين
يفتح كمال الجزولي النقاش باعتبار أن الخطاب الإسلامي غالبًا ما يخلط بين العقيدة الجامدة والاختلافات الاجتهادية. يُفرق بين الثوابت (التوحيد، العدل، القيم الكبرى) وبين متحركات التدين (الاجتهادات المرتبطة بالزمان والمكان). ويرى أن المشكلة بدأت حينما اعتبر الإسلامويون المتحركات ثوابت، فجمّدوا الفكر وحوّلوا الدين إلى أداة للاستبداد.
الفصل الثاني: الدولة بين القداسة والتسييس
ينتقد كمال الجزولي فكرة “الدولة المقدسة” التي يزعمها الإسلامويون، ويبيّن أن إسقاط القداسة على السلطة يحول دون محاسبتها. يقترح أن يبقى الدين مصدرًا للقيم بينما تُدار الدولة بالعقد الاجتماعي والسياسة المدنية.
الفصل الثالث: العقل والتجديد
يؤكد كمال الجزولي على دور العقل والاجتهاد المستمر. يرى أن رفض التجديد يتعارض مع جوهر الإسلام الذي يدعو للتفكر. التجديد لا يعني هدم الأصول بل تطوير الممارسة وفقًا للزمان والمكان.
الفصل الرابع: نقد الإسلاموية السياسية
يهاجم كمال الجزولي الإسلامويين الذين يوظفون الدين لمشاريع سياسية ضيقة. ويشير إلى أن التكفير والإقصاء يُفكك المجتمع ويفتح الباب للعنف والفساد. الحل في إعادة الدين إلى فضائه القيمي وترك السياسة للمجتمع المدني.
الفصل الخامس: السيادة، التشريع، والعدالة
يسأل كمال الجزولي من يملك حق التشريع؟: الشعب أم الدين؟ يطرح أن التشريع يجب أن يكون نابعًا من الإرادة الشعبية، وأن العدالة هي معيار الشرعية، لا مجرد ادعاءات دينية.
الفصل السادس: السودان نموذجًا — من خلط الدين بالدولة إلى محاصصات الولاءات
منذ استقلال السودان عام ١٩٥٦، ظلّت الساحة السياسية عالقة في جدل لم يُحسم حول علاقة الدين بالدولة. فكل سلطة عسكرية أو مدنية حاولت أن تلبس لبوس الشرعية الدينية، بدل أن تُقيم شرعيتها على العقد الاجتماعي والديمقراطية. هذا الخلط المتكرر فتح الباب أمام استغلال الدين أداةً للهيمنة والإقصاء.
لكن أزمة السودان لم تقف عند هذا الحد. فقد رافقها أيضًا ما يمكن وصفه بـ “التسليم الجاهل” — قبول شعارات دينية أو عقائدية دون تدبر، وتسليم أعمى للنخب الحاكمة. الإيمان هنا فقد معناه الأخلاقي، وتحول إلى وسيلة للسيطرة.
عكس ما اعتقد الكثيرون، فبالرغم من نجاح ثورة ديسمبر في إسقاط البشير وحكم الكيزان، برزت مشكلة المحاصصات والانتماءات الضيقة. فبدلًا من أن تلتقي القوى السياسية على مشروع وطني جامع، انشغلت بالتنازع على نصيبها من السلطة وفقًا للحزب أو الجهة أو الولاء. هذا الهرج والمرج-الذي استمر منذ خروج المستعمر الإنجليزي مخلفا دولة مركزية فاشلة- عمّق الانقسامات، وحوّل الساحة السودانية إلى مثال حي للتناقض.
النتيجة كانت انفجارًا شاملًا في شكل حرب القرن: صراع دموي بين جيش الإسلاميين وقوات الدعم السريع، تغذّيه تناقضات الماضي وتوظيف الدين في غير موضعه، وتغذّيه أيضًا عقلية المحاصصات التي حطّمت الثقة الوطنية. وهنا تبرز قيمة كتاب المفكر كمال الجزولي: أنه حذّر مبكرًا من هذه المفارقات، ودعا إلى عقل وإيمان متدبر، ودولة مدنية عادلة.
الرسائل المستخلصة لواقع السودان اليوم
١. التمييز بين الثوابت والمتغيرات ضرورة لبقاء المجتمع والدولة.
٢. لا قداسة للسلطة: يجب فصل الدين عن الحكم الفعلي، وإبقاء الدولة قابلة للمحاسبة.
٣. الاجتهاد والتجديد واجبان لمواكبة التغيرات، لكن ضمن إطار القيم الأخلاقية.
٤. التعددية والتعايش أساس الدولة المدنية، ولا يمكن فرض رؤية دينية واحدة.
٥. العدالة هي معيار الشرعية، لا الشعارات أو الشعور بالحق المطلق.
كمال الجزولي بين اليسار والإيمان
ارتبط الكاتب كمال الجزولي بالفكر اليساري وبالحزب الشيوعي السوداني من موقع المثقف القريب و ليس العضو السياسي الملتزم. لكنه لم يكن مادياً صرفاً أو مناهضاً للدين. بل كان يكتب عن الإيمان بوصفه تجربة فكرية وروحية، ويعتبر أن “الله غني عن إيمان بلا تدبر، ومتعالٍ على تسليم بلا تفكر”. هذا المزج بين العقل والإيمان يعكس رؤيته بأن التدين الحقيقي ليس في الطاعة العمياء، بل في التفكر والتأمل الذي يقود إلى عدالة ورحمة. بهذا المعنى، يجمع كمال الجزولي بين إرث عبد الخالق محجوب في قراءة الدين بعقلانية، وبين الحس الصوفي والأخلاقي العميق الذي يميز الثقافة السودانية.
الدولة المقدسة واجتهاد سيد قطب والمودودي .ركز الكاتب فيما ترويج بعض منظري الإسلام السياسي لفكرة “الدولة المقدسة”، التي يضفي فيها الحاكم على قراراته هالة من العصمة، فيُختزل الدين في موقف سياسي، وتُكفَّر الآراء المخالفة. هذا التصور فتح الباب أمام الاستبداد باسم الشرع، وأسس لهيمنة فكرية واجتماعية قاسية. وعلى صلة بهذه الفكرة، يشير الكاتب إلى أن الدولة في الإسلام “”مدنية تقوم على الشورى، لا ثيوقراطية دينية تُستغل لتكريس الاستبداد. غير أن اجتهاد سيد قطب والمودودي، القائم على نفي رأي الآخرين وتقديس الموقف السياسي للحاكم، قد مهد منذ الخمسينات لظهور التطرف الإسلامي الذي ما زلنا نعاني من آثاره حتى اليوم
الهوامش
١. صدر الكتاب عن دار مدارك – القاهرة، ٢٠١٠.
٢. الكاتب كمال الجزولي (١٩٤٧–٢٠٢٣) محامٍ، شاعر، ومفكر سوداني، من أبرز الأصوات المناهضة للإسلاموية السياسية.
٣. أهدى كمال الجزولي الكتاب لعبد الخالق محجوب، سكرتير الحزب الشيوعي السوداني الذي أُعدم عام ١٩٧١.
٤. توفي الكاتب كمال الجزولي في ٥ نوفمبر ٢٠٢٣ بالقاهرة، بعد ستة أشهر من اندلاع الحرب في السودان.
٥. للمزيد: انظر مراجعات الكتاب في موقع سودانيزأونلاين وسودانيل.
د. أحمد التيجاني سيد أحمد
قيادي موسس في تحالف تأسيس
٢٨ سبتمبر ٢٠٢٥ ، روما- إيطاليا