سودان تمورو:
في مفارقة سياسية غير مسبوقة، وجدت واشنطن وتل أبيب نفسيهما أمام مشهد لم يكن في حساباتهما: موافقة حركة حماس من حيث المبدأ على خطة “اليوم التالي” التي كانت الإدارة الأمريكية تتوقع رفضها. المفارقة هنا ليست في مضمون الموافقة فحسب، بل في ما أحدثته من ارتباك استراتيجي أربك مساراً كان مُعدًّا بعناية على أساس رفض متوقع. فحين يقبل الخصم بما يفترض أنك أعددته ليُرفض، تنقلب الطاولة وتختل معادلات القوة والنفوذ.
تصريحات وزير الخارجية الأمريكي ماركو روبيو جاءت محمّلة بتناقضات تُفضح بين سطورها الحيرة الأمريكية. فبين تفاؤل حذر يلوّح بإنهاء الحرب، وتحذيرات متكررة من صعوبة المرحلة الثانية التي تشمل “نزع السلاح”، بدا الخطاب الأمريكي متأرجحًا بين الرغبة في إظهار إنجاز سياسي والخشية من انكشاف المأزق الحقيقي. فقوله “سنعرف سريعًا ما إذا كانت حماس جادة أم لا” ليس مجرد توصيف، بل تلميح إلى شك عميق بأن الموافقة الفلسطينية تحمل في طياتها ما هو أبعد من نية إنهاء الحرب.
إن التحوّل اللغوي من خطاب التفاؤل إلى خطاب التعقيد ليس تفصيلاً عابراً، بل انعكاس لارتباك في الموقف الأمريكي. فالموافقة التي كانت واشنطن تراها مستحيلة، كشفت أن الرفض كان الخيار الأسهل والأكثر أمانًا دبلوماسيًا، أما القبول فقد فجّر مأزقاً حقيقياً في واشنطن وتل أبيب معًا، لأن الموافقة تعني بدء التزامات ومسارات تفاوضية معقّدة لا يمكن ضبطها بسهولة أو تكييفها مع الأجندة الإسرائيلية.
المرحلة الثانية، كما وصفها روبيو، هي قلب المعضلة. “نزع السلاح” ليس بندًا تفاوضيًا بسيطًا، بل هو الممر الإجباري الذي يُراد له أن يجرّد المقاومة من جوهر قوتها. هذا الشرط، في نظر واشنطن وتل أبيب، هو مفتاح السلام؛ وفي نظر الفلسطينيين هو مفتاح الاستسلام. ومن هنا ينشأ التناقض الجوهري الذي يجعل الحديث عن “اليوم التالي” أشبه بحديث عن وهم سياسي أكثر منه خطة واقعية.
ومع ذلك، لا تبدو حماس غافلة عن هذه الديناميكيات. فالموافقة المبدئية قد تكون تكتيكًا محسوبًا بعناية: قبول يُفتح به باب التفاوض، لا باب التنازل؛ خطوة تُربك الخصم وتُحمله عبء التفاصيل والالتزامات. ففي لعبة الشطرنج السياسية، قد تكون الحركة الذكية ليست في تحريك الملك أو الوزير، بل في جعل الخصم يتحرك أولاً في الاتجاه الخاطئ.
إن ما يجري اليوم هو اختبار حقيقي للنوايا الأمريكية. فحين يعترف روبيو بأن “لا يمكن إقامة هيكل لحكم غزة دون حماس في ثلاثة أيام فقط”، فإنه في الواقع يقرّ بفشل كل محاولات تهميش الحركة وإلغائها من معادلة الحكم. الاعتراف الضمني هنا أكبر من مجرد تصريح دبلوماسي؛ إنه إعلان عن سقوط وهم “غزة بلا حماس” الذي رُوّج له طيلة شهور الحرب.
الحقيقة أن الولايات المتحدة، رغم خطابها المفعم بالحديث عن “السلام”، لم تغادر بعد عقلية ما قبل التسوية، حيث يُنظر إلى المقاومة كعقبة لا كشريك. إن الحديث عن نزع سلاح حماس دون التطرق إلى سلاح الاحتلال هو قمة المفارقة التي تفضح ازدواجية المعايير وتعيد إنتاج المعادلة القديمة ذاتها: أمن لإسرائيل، مقابل شروط على الفلسطينيين.
المرحلة المقبلة إذن ليست معركة بنادق، بل معركة شروط وروايات. “اليوم التالي” لن يكون يوم سلام، بل ميدان اختبار لقدرة كل طرف على تحويل المبادئ إلى تفاصيل تحفظ مكاسبه وتمنع انكساره. فالمعركة القادمة ستكون حول تعريف “نزع السلاح” و”الانسحاب” و”الحكم”، وكلها مفاهيم ستُفسّر سياسيًا وفق ميزان القوة على الأرض.
الموافقة المبدئية التي أربكت الجميع قد تتحول إلى ورقة ضغط بيد حماس أكثر فاعلية من أي جولة قتال. ففي السياسة كما في الحرب، ليست القوة في من يملك السلاح فحسب، بل في من يعرف متى وكيف يستخدم القبول كسلاح جديد يربك الخصم ويقلب المعادلة.
لقد علّمت فلسطين العالم أن الرفض أحيانًا ضرورة، لكن القبول الذكي في التوقيت الصحيح قد يكون أقوى من ألف معركة. والولايات المتحدة، التي ظنت أن الخطة ستقود إلى “سلام مفروض”، تجد نفسها اليوم في فخ التفاؤل الحذر، بين خوف من نجاح غير محسوب، وتردد في مواجهة معضلةٍ اسمها: “ما بعد الموافقة”.