الإثنين, أكتوبر 6, 2025
الرئيسيةأحدث الأخبارعندما يتحول الشرط إلى عثرة في طريق الوطن!

عندما يتحول الشرط إلى عثرة في طريق الوطن!

سودان تمورو:

في مشهد يعكس عمق الأزمة السودانية وتشابك مساراتها، برزت تصريحات نائب رئيس قوى الحرية والتغيير (الكتلة الديمقراطية) محمد الأمين ترك، كإشارة جديدة إلى جدلية “الإرادة الوطنية” في مواجهة الضغوط الدولية. دعوته لأن يكون أي حوار بإرادة سودانية خالصة، مع اقتصار دور المجتمع الدولي على المساندة لا التوجيه، تحمل صدًى وطنياً عميقاً يجد صدى في وجدان الشارع السوداني الذي سئم من الوصاية الخارجية وتجارب التدخل التي لم تجلب سوى مزيد من الانقسام والدمار. لكن ترك، وهو يضع أصبعه على جرح السيادة، سرعان ما انتقل إلى جرح آخر حين ربط التوافق الوطني بشرط الاعتذار، ليفتح بذلك باباً على جدل لا يقل خطورة عن أصل الأزمة.

الحديث عن “الإرادة السودانية الخالصة” هو بلا شك نغمة تُنعش الوجدان الوطني وتعيد التذكير بأن الحلول الحقيقية لا تولد إلا من رحم الداخل. السودان، الذي خبر مرارة المؤتمرات الخارجية وتقاطعات المصالح الإقليمية، يحتاج اليوم إلى أن يسمع صوته لا أن يُملى عليه. وما قاله ترك عن احترام الجيش والشعب هو تأكيد على مركزية المؤسسة العسكرية في حفظ الأمن والكيان الوطني، في وقت تتنازع فيه القوى السياسية على الشرعية، وتستقوي بعض الأطراف بالدعم الخارجي كبديل عن الدعم الشعبي.

لكن العقبة تبدأ حين يتحول الخطاب الوطني إلى قائمة شروط أخلاقية تُلزم الآخرين بالاعتذار كمدخل للحوار. فشرط ترك بأن “تفك المجموعات ارتباطها بالخارج وتعتذر” يحمل في ظاهره نزعة تطهير سياسي، لكنه في عمقه قد يتحول إلى فخ يعرقل الحوار قبل أن يبدأ. فالتوبة الجماعية ليست أساس التوافق، بل الرغبة في إنقاذ وطن يكاد يغرق. وإن كنا منصفين، فإن هذا المنطق سيُلزم ترك نفسه باعتذار مماثل عن إغلاق الميناء في بورتسودان، حين أدى ذلك إلى أزمة غذائية خانقة طالت ملايين السودانيين. فالمسؤولية الوطنية لا تتجزأ، ومن يطلب من الآخرين الاعتذار عليه أن يبدأ بنفسه.

السودان اليوم لا يحتاج إلى محاكم سياسية متنكرة في ثوب الحوار، بل إلى مائدة يجلس حولها الجميع دون شروط مسبقة، تُقدّم فيها التنازلات للبلاد لا للأشخاص. إن تحويل الحوار إلى منصة لفرز من يعتذر ومن لا يعتذر، هو إجهاض لمبدأ المصالحة في أساسه، وهو ما حذر منه التاريخ مراراً في تجارب دول خرجت من النزاعات فاختارت طريق التسامح المشروط بالعدالة لا بالانتقام.

الاعتذار قيمة نبيلة حين يصدر عن قناعة، لكنه يتحول إلى أداة إقصاء حين يُفرض كشرط. المطلوب ليس أن ننشغل بالماضي بقدر ما نواجه الحاضر المأزوم. ففي وقت تتسع فيه رقعة الحرب وتنهار فيه الخدمات ويهاجر فيه الأطباء والمعلمون والمهندسون، يصبح أي حوار مؤجل بسبب الشروط عبثاً سياسيًا في غير أوانه.

الحكمة تقتضي أن نضع “الإنقاذ الوطني” قبل “العتاب السياسي”، وأن نُرجئ الحساب إلى حين استقرار الدولة. فحين تقوم المؤسسات الوطنية الحرة، سيكون لكل مظلمة بابها، ولكل خطأ محكمة تنظر فيه بإنصاف لا بتشفٍ. أما الآن، فالأولوية أن تُحفظ وحدة السودان، وأن يُفتح باب الحوار على مصراعيه، بلا استثناء ولا شروط.

الإرادة السودانية الخالصة لا تُقاس بعدد الاعتذارات، بل بمدى استعداد القوى الوطنية لتجاوز أحقادها. الوطن اليوم لا ينتظر من يتحدث باسمه، بل من يعمل من أجله. والاعتذار الأصدق ليس في الكلمات، بل في الأفعال: أن نختار السودان أولاً، وأن نجعل من الحوار سبيل بقاء لا ساحة تصفية حساب.

مقالات ذات صلة

ترك الرد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

- Advertisment -<>

الأكثر شهرة

احدث التعليقات

عبدالقادر النصري عبدالقادر على اعلان تفاصيل استخراج الشهادة السودانية 2023
عبدالقادر النصري عبدالقادر على اعلان تفاصيل استخراج الشهادة السودانية 2023
مكاوي الغالي محمد علي على مبادرات وتبرعات لمساعدة متضرري الحرب