سودان تمورو
أصبح من الواضح عند الكثيرين في فرنسا وخارجها أن العلاقة مع مالى وعموم دول غرب أفريقيا المعترضة على السياسات الفرنسية ، أصبح واضحا أن العلاقات لن تعود بسهولة إلى طبيعتها وسابق عهدها الذى عرفت به منذ جلاء المستعمر وتشكل الدول الحالية.
ويعرف المتابعون للأمر أن فرنسا فقدت الكثير مما كانت تتمتع به من نفوذ وحظوة في هذه الدول ، وأن الشعوب هناك سئمت ماتمارسه باريس من سوء معها، وأن هذا الاستغلال لابد أن يقف ، ومع التغييرات السياسية في بعض دول غرب أفريقيا كالنيجر وبوركينا فاسو ومالى باتت العلاقة مع فرنسا تشهد اضطرابا كبيرا وتوترات لم تعرفها من قبل.
ففى مالى مثلا لم يكن الوضع للفرنسيين افضل ، إذ تغير الحال تماما عما كان عليه من قبل ، وشعرت باريس انها فقدت فعلا ما كانت تتمتع به هناك ، وقد سعت بشتي الطرق الى استعادة نفوذها وانهاء هذا الوضع الجديد الذي لم تحتمله لكنها ليست فقط لم تستطع بل دفع الأمر صحيفة لوموند المشهورة الى التعبير عن خيبة الأمل و القول باستحالة التطبيع بين بوماكو وباريس ، والتعبير بكلمة تطبيع يعنى ان العلاقات وصلت حدا غير طبيعي وشاذ ومستغرب.
وأدى اعتقال عميل من جهاز الاستخبارات الخارجية الفرنسي في باماكو في أغسطس بتهمة “محاولة زعزعة الاستقرار” في البلاد، إلى مزيد من التدهور في العلاقات الفرنسية المالية المتدهورة منذ انقلاب آسيمي غويتا عام 2020.
وقالت صحيفة لوموند -في تحليل بقلم بنيامين روجيه- إن هذا الاعتقال أدى إلى قطع آخر قنوات الاتصال غير الرسمية بين البلدين، وهي قناة التعاون الاستخباراتي التي كانت مستمرة رغم تدهور العلاقات السياسية والدبلوماسية.
وكان “يان ڤي” -الذي اعتقل مؤخرا- يعمل دبلوماسيا بالسفارة الفرنسية في باماكو، ويضطلع بمهمة استخباراتية، وهو أمر مألوف في العلاقات الدولية، حيث تبقى قنوات التجسس قائمة حتى بين خصوم متوترين، كما يقول الكاتب.
وجاء رد فرنسا يومها أكثر حزما من المرات السابقة -حسب الكاتب- تفاديا لتكرار تجربة مماثلة في بوركينا فاسو التي اعتقلت 4 عملاء استخبارات فرنسيين سابقا، فأقدمت على طرد عميلين من الاستخبارات في سفارة مالي بفرنسا، وأعادت باقي طاقمها الاستخباراتي من باماكو قبل أن يطردوا رسميا.
ورغم انهيار التعاون الأمني العلني، كانت هناك شراكة استخباراتية غير معلنة بين البلدين، حتى بعد خروج القوات الفرنسية من مالي عام 2022، وقد استفادت مالي من القدرات التقنية الفرنسية في مجال المراقبة والتنصت -حسب الكاتب- كما حرصت باريس على الحفاظ على نافذة لرصد التحركات الجهادية في منطقة الساحل التي تزداد هشاشتها الأمنية.
وذكر الكاتب بأن التدهور لم يبدأ حقيقة مع غويتا، بل تعود جذوره إلى ما قبل الانقلاب، حين كانت باريس ترى في الرئيس السابق إبراهيم بوبكر كيتا زعيما ضعيفا، مما جعلها تتقبل بشكل غير مباشر الانقلاب العسكري.
غير أن الأمل الفرنسي في الانقلاب خاب، بعد انقلاب ثان قاده غويتا في مايو 2021، وقد ترافق مع تصعيد خطابي ضد فرنسا، وتوجه مالي إلى روسيا طلبا للدعم، وتحديدا من خلال مجموعة فاغنر شبه العسكرية.
واعتبرت باريس أن ما قامت به مالي تجاوز لخط أحمر إستراتيجي، وتوالت الأزمات بعد ذلك: من طرد السفير الفرنسي إلى إنهاء عملية “برخان” فتعليق المساعدات التنموية.
الأمر سيستغرق وقتا، ولكن التواصل سيعود حتما بين باريس وباماكو.
ورغم استمرار بعض مظاهر العلاقة، مثل عمل القنصلية والمدارس الفرنسية، فإن اعتقال “يان ڤي” مع عدة ضباط ماليين في القضية ذاتها شكل نقطة تحول حاسمة، ما زال المسؤولون الفرنسيون منقسمون حول كيفية الرد عليها، حيث يدعو بعضهم للتشدد، والبعض يفضل تجنب التصعيد.
ومع ذلك تؤكد عدة مصادر فرنسية رسمية أن الأمور لن تعود كما كانت، ويقول أحدهم “لن نستمر وكأن شيئا لم يحدث. هذا عمل عدائي للغاية. لا يمكن استئناف أي حوار من دون إطلاق سراحه (يان في) أولا”.
وفي انتظار حل الأزمة، لجأت فرنسا إلى بعض شركائها الأفارقة والأوروبيين للوساطة، من بينهم المغرب الذي سبق أن لعب دورا حاسما في تحرير عملاء كانوا محتجزين في بوركينا فاسو.
ويقول وزير مالي سابق في عهد ابراهيم كيتا إن “الأمر سيستغرق وقتا، ولكن التواصل سيعود حتما بين باريس وباماكو. علاقتنا معقدة، لكننا مترابطون للغاية، بسبب وجود آلاف المواطنين من ذوي الجنسية المزدوجة، وجالية مالية كبيرة في فرنسا. لا يمكن قطع العلاقة نهائيا”.
ومن منظور فرنسي، تبقى الأوضاع الأمنية المتدهورة في مالي ومنطقة الساحل بشكل عام مصدر القلق الأكبر، ويقول مسؤول فرنسي “إذا أصبحت المنطقة أولوية أمنية دولية، سيكون على الجميع التدخل بمن فيهم نحن. صحيح أننا لن نكون في الصفوف الأولى كما كنا في السابق، لكننا لن نبقى بعيدين تماما