سودان تمورو:
قراءة تحليلية في البودكاست والواقع السياسي الراهن
مقدمة
في البودكاست الذي قدّمه منعم سليمان تعليقًا على حديث رئيس الوزراء محمد حسن التعايشي في *سودان ٣٦٥*، بدا الصوت مفعمًا بالغضب الوطني المشروع، لكنه أيضًا مشوبٌ بالخلط بين الجرأة في النقد والضبابية في التموقع.
منعم تحدّث بلسانٍ حرٍّ، لكنّه — عن قصدٍ أو دون قصد — وضع التعايشي، رمز المشروع المدني الجديد، في سلة واحدة مع رموز النظام القديم التي تسعى بكل دهاء إلى إعادة إنتاج نفسها.
ما قاله التعايشي… وما لم يُقل
حديث التعايشي كان أوضح من أن يُساء تأويله: لقد حدّد بجلاء أن تحالف تأسيس السودان ليس تسوية ولا مساومة، بل ثورة دستورية جديدة تفتح الباب أمام بناء الدولة الوطنية على أسس العدالة والمواطنة.
تكلم بلغةٍ تعلو على الصراع الشخصي، وترتفع فوق استقطاب الحرب، مذكّرًا بأن بناء السودان الجديد لا يكون بتصفية الحسابات، بل بإقامة عقدٍ وطنيٍ جديد.
غير أن ما لم يقله التعايشي علنًا — وهو ما التقطه خصومه بدهاء — هو أنّ الفرز الثوري لا بدّ أن يُعلن رسميًا.
فالمعركة اليوم ليست بين جيشين فقط، بل بين مشروعين: مشروع يريد أن يؤسس لسودانٍ ديمقراطي جامع، وآخر يريد أن يعيد تدوير دولة بني كوز بثوبٍ جديد.
منعم سليمان والبودكاست: بين الغضب والخلط
في نقده، كان منعم سليمان صادقًا في رفضه للفشل القديم، لكنه تسرّع في مساواة المختلفين في الجوهر.
فالتعايشي لا يقود انقلابًا ناعمًا، بل حكومة تأسيس ثورية خرجت من رحم الميثاق والدستور، لا من صفقةٍ خلف الأبواب.
الخلط بين خطاب التأسيس وخطاب التسوية يُربك الوعي العام، ويخدم بغير قصد الدولة العميقة التي تقتات على الشكّ والتشويه.
حماية رئيس الوزراء واجب ثوري
في هذه اللحظة الحرجة، يصبح حماية رئيس الوزراء محمد حسن التعايشي مسؤولية كل مؤمن بمشروع التأسيس.
فالرجل لا يستند إلى مليشيا ولا إلى أجهزة أمنية، بل إلى شرعية الميثاق والدستور اللذين أقرّهما قادة الثورة ومفكروها وممثلو الهامش.
تاريخ السودان يُثبت أن الدولة العميقة تبدأ إسقاط خصومها بالاغتيال المعنوي قبل المادي — بالتشكيك، وبخلط الأوراق، وبإشاعة أن الجميع سواء.
لكن التعايشي ليس «سياسيًا آخر»، بل أداة وواجهة لميلاد دولة جديدة نذرت نفسها للخلاص من الوصاية والتبعية.
أدوات التعايشي للنهوض بسلطة التأسيس
لكي ينجح التعايشي، عليه أن يستخدم أدوات واضحة وشفافة، منها:
١. تثبيت شرعية الميثاق والدستور علنًا عبر وثائق، ندوات، وقرارات تنفيذية.
٢. إعادة بناء الجهاز الإداري للدولة على أساس الكفاءة لا الولاء، خصوصًا في الوزارات السيادية والخدمية.
٣. تفعيل التحالفات الشعبية والمهنية التي تؤمن بالتأسيس كمسارٍ وليس كمرحلة، وتوسيع دائرة المشاركة من دارفور إلى الشمال والشرق.
٤. الفرز الثوري الشجاع: لا تسوية مع بقايا الكيزان، ولا مهادنة لمن يساوم على دماء الثورة.
٥. الخطاب الاتصالي الذكي — استخدام الإعلام الحديث لإيصال رسالة التأسيس بلغة الأمل لا الثأر، بلغة البناء لا الشكوى.
الخلاصة
إنّ التجربة القاسية لحميدتي — الذي لم يحسم تحالفاته بين الهامش والمركز، فاستغلته الدولة العميقة وأسقطته — يجب أن تكون درسًا وعبرة.
وعلى التعايشي ألّا يُكرّرها، بل أن يحسم خياراته بثباتٍ ثوريٍّ واضح.
أما منعم سليمان، فرأيه يُحترم حين يكون نقدًا من داخل الثورة لا عليها.
فالذين يقاتلون اليوم لبناء السودان الجديد لا يطلبون تأييدًا أعمى، بل إنصافًا مبنيًا على الحقيقة والميثاق.
وإنّ التجربة التي خاضها رئيس التأسيس محمد حمدان دقلو وقواته في مواجهة دولة التمكين الكيزانية، تبقى جزءًا أصيلًا من ذاكرة التضحيات التي مهّدت لطريق التأسيس المدني. فما قدّمه من موقفٍ ووعيٍ في لحظةٍ فارقة من تاريخ السودان، لم يكن انحيازًا عابرًا بل تحولًا جوهريًا في مسار الثورة نحو بناء دولة المواطنة والعدالة، وهو الإرث الذي تُكمله اليوم حكومة التأسيس بقيادة رئيس وزرائها المدني.
د. أحمد التيجاني سيد أحمد
قيادي ومؤسس في تحالف تأسيس
الراكوبة