الأحد, أكتوبر 19, 2025
الرئيسيةأحدث الأخباراغتيال الحكمة... حين تتحول الطائرات المسيرة إلى أدوات تمزيق النسيج الاجتماعي!

اغتيال الحكمة… حين تتحول الطائرات المسيرة إلى أدوات تمزيق النسيج الاجتماعي!

 

خاص سودان تمورو

لم تكن تلك الطائرة المسيرة التي حلّقت فوق المزروب مساء الجمعة مجرد أداة قتل، بل كانت رسولا للموت يعلن أن الحرب في السودان لم تعد تكتفي بخصومها المسلحين، بل بدأت تقتات على حكمائها وصنّاع سلامها. اغتيال الناظر سليمان جابر جمعة سهل، زعيم قبيلة المجانين، ومعه ستة عشر من مرافقيه، لم يكن جريمة ضد أشخاص، بل ضد فكرة الوطن نفسه.

في لحظة واحدة، انقلب مجلس الصلح إلى مأتم. الرجال الذين جاؤوا لحقن الدماء صاروا دماءً تُراق، والموائد التي نصبت للسلام تحولت إلى رماد. إنها مأساة تتجاوز القتلى إلى اغتيال مفهوم “الإدارة الأهلية” التي كانت على الدوام صمام الأمان وعمود الاتزان الاجتماعي في السودان. هذه الجريمة ليست فقط تدميراً لإنسان، بل تدميرٌ لبنية رمزية كاملة تمثل صوت العقل في زمن الجنون.

وفي أعقاب المجزرة، انطلقت حربٌ أخرى لا تقل شراسةً عن الأولى، لكنها تُدار بالكلمات لا بالرصاص: حربُ الروايات. مجلس السيادة في بورتسودان اتهم قوات الدعم السريع بتنفيذ “هجومٍ غادرٍ وسافرٍ” استهدف اجتماعاً لصنع السلام، بينما سارع تحالف “تأسيس” الموالي للدعم السريع إلى اتهام الجيش بالمسؤولية عن الغارة، واصفاً إياها بـ“التصعيد الخطير ضد المدنيين”. بين هذين الاتهامين، تُدفن الحقيقة تحت أنقاض الدعاية، ويُساق الوعي الجمعي إلى متاهة التضليل الإعلامي.

غير أن السؤال الجوهري يبقى: من المستفيد؟
القرائن الميدانية لا تمنح براءةً قاطعة لأي طرف. فالإدارة الأهلية في المزروب كانت قد أعلنت ضيقها من وجود قوات الدعم السريع في المنطقة، وهو ما يجعل اغتيال زعيمها رسالة ترهيب واضحة. وفي المقابل، تؤكد روايات أخرى أن الجيش عرض تسليح قبيلة المجانين للقتال معه، لكنها رفضت، لتتحول القاعدة القديمة “من ليس معي فهو ضدي” إلى رخصةٍ للقتل. وبين هذه الاحتمالات المتشابكة، يضيع صوت العدالة، ويعلو ضجيج المصالح.

النتيجة واحدة: تمزيق النسيج الاجتماعي وإشعال الفتن القبلية في منطقة لم تعد تحتمل المزيد من الانكسارات. استهداف حكماء القبائل في اجتماع صلح ليس صدفةً عابرة، بل استراتيجية متعمدة لإفراغ الساحة من رموز الاعتدال ودفع المجتمعات المحلية إلى التطرف والانتقام. إنها رسالة من طرفي الحرب بأن الحياد خيانة، والسلام جريمة.

ما حدث في المزروب لا يمكن فصله عن السياق الأوسع للحرب التي تتآكل من الداخل وتفقد أي مبرر أخلاقي أو وطني. إنها حربٌ بلا قيم، تتسابق فيها البنادق لإسكات آخر الأصوات العاقلة. ووسط هذه الفوضى، تتهاوى فرص السلام الإقليمي والدولي، وتتحول مبادرات الرباعية وغيرها إلى أوراقٍ باهتة أمام مشهدٍ دامٍ يزداد تعقيداً كل يوم.

لقد بلغت الحرب في السودان مرحلة من الانحدار الأخلاقي تجعل من دماء الأبرياء لغة السياسة الوحيدة. وحين تُستهدف موائد الصلح، نكون أمام جريمة لا تُقاس بعدد القتلى، بل بعمق الجرح الذي تُحدثه في الضمير الوطني.
ما جرى في المزروب ليس مجرد حادثة مأساوية، بل نداءٌ صارخ بأن الوطن يُذبح من خاصرته، وأن الطائرات التي تُحلّق فوق رؤوسنا لا تحمل فقط المتفجرات، بل تحمل سؤالاً أكبر: من بقي ليتحدث عن السلام في وطنٍ اغتيل فيه حكماؤه؟.

مقالات ذات صلة

ترك الرد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

- Advertisment -<>

الأكثر شهرة

احدث التعليقات

عبدالقادر النصري عبدالقادر على اعلان تفاصيل استخراج الشهادة السودانية 2023
عبدالقادر النصري عبدالقادر على اعلان تفاصيل استخراج الشهادة السودانية 2023
مكاوي الغالي محمد علي على مبادرات وتبرعات لمساعدة متضرري الحرب