الأربعاء, نوفمبر 5, 2025
الرئيسيةمقالات الرأيتشريح إشكالية بناء الدولة في مناطق النفوذ المسلح: الحالة السودانية كنموذج بقلم...

تشريح إشكالية بناء الدولة في مناطق النفوذ المسلح: الحالة السودانية كنموذج بقلم زهير عثمان حمد

سودان تمورو:

أين الواقع والطوبى تشريح إشكالية “تأسيس الدولة” في مناطق سيطرة قوات الدعم السريع
تمهيد: بين حلم الدولة وضباب السلاح

في خضم الضبابية الدامسة التي تخيم على المشهد السوداني منذ اندلاع الصراع المسلح في أبريل 2023، تبرز محاولات “التأسيس” لكيان سياسي جديد في مناطق سيطرة قوات الدعم السريع (RSF) كظاهرة معقدة، تستحق قراءة نقدية متأنية وعميقة.
هذه المحاولات، التي تتجلى في إعلانات عن إدارات مدنية مؤقتة وهياكل إدارية محلية، تحمل تناقضات جوهرية تطرح أسئلة مصيرية حول إمكانية تحويل السلاح إلى دولة، والعسكرة إلى مؤسسات مستدامة.
إنها ليست مجرد إجراءات إدارية، بل محاولة لإعادة صياغة مفهوم الدولة في سياق حرب أهلية مدمرة، حيث يتحول الواقع إلى طوبى، والقوة إلى شرعية مزعومة.

أولاً: التأسيس على أنقاض الدولة – المفارقة البنيوية

المفارقة الأساسية تكمن في محاولة بناء كيان سياسي عبر تفكيك الكيان القائم أصلاً. فالدولة، بالمفهوم الكلاسيكي الذي صاغه ماكس فيبر، تقوم على ثلاثة أركان: الشرعية، المؤسسات، والاحتكار الشرعي للعنف.
غير أن التأسيس الجاري في مناطق سيطرة الدعم السريع يعتمد على القوة العسكرية المحضة، مما يجعل الشرعية السياسية رهينة لميزان القوة، لا لموافقة المجتمع.

تشير تقارير ميدانية من ولايات دارفور، مثل نيالا والجنينة، إلى أن بعض “الإدارات المدنية” المعلنة ليست سوى واجهات تُدار فعليًا من قِبل القادة الميدانيين، وتستند إلى الولاء القبلي والعسكري أكثر من الكفاءة الإدارية.
وهذا يعيدنا إلى سؤال مركزي: هل يمكن الحديث عن “دولة” في ظل هيمنة منطق الميليشيا؟

هذه الإشكالية البنيوية تجعل من التأسيس عملية تدميرية أكثر منها بنائية، إذ يُبنى الجديد على أنقاض القديم دون أساس شرعي متين.

ثانياً: وهم الإدارة المدنية في ظل الهيمنة العسكرية

يزعم المشروع التأسيسي إمكانية قيام “إدارة مدنية مؤقتة” تتولى الخدمات الأساسية مثل التعليم والصحة والأمن المحلي.
لكن التجارب المقارنة — من أفغانستان طالبان إلى العراق بعد الاحتلال الأمريكي — تشير إلى أن الإدارة المدنية في ظل السلاح تتحول إلى أداة تزيينية تمنح واجهة شرعية لهيمنة عسكرية قائمة.

في مناطق الدعم السريع، يُعيَّن المدنيون بقرارات عسكرية، وتُدار الموارد بمنطق السيطرة لا بمنطق الخدمة.
يُضاف إلى ذلك أن غياب الموارد المستقرة يجعل هذه الإدارات رهينة للتمويل الخارجي، أو للتجارة غير النظامية عبر الحدود، ما يُفرغها من مضمونها المؤسسي.

الأهم من إنشاء الهياكل هو تحويل الذهنية من منطق السيطرة إلى منطق الخدمة، وهو تحول لم تشهده أي حركة مسلحة دون ضغط داخلي أو خارجي حقيقي.
ففي ظل هيمنة السلاح، تبقى الإدارة المدنية مجرد وهم مرحلي يُستخدم لكسب الاعتراف الخارجي أو تهدئة المجتمعات المحلية.

ثالثاً: الشرعية بين القوة والرمز الشعبي

الشرعية في السودان ليست فقط شرعية مؤسساتية، بل رمزية وثقافية أيضًا.
ففي المجتمعات السودانية، تُستمد الشرعية جزئيًا من الأعراف المحلية، والتصوف، والروابط القبلية، والزعامات التقليدية.
محاولات الدعم السريع لاكتساب الشرعية من خلال التحالف مع الإدارات الأهلية تمثل إدراكًا لهذا البعد، لكنها تبقى شرعية “مُستعارة” لا يمكن تحويلها إلى مشروعية سياسية دائمة دون عقد اجتماعي جديد.

فالشرعية الحقيقية، كما يفرق توماس هوبز بين السلطة الفعلية والسلطة المشروعة، لا تُمنح بالقوة، بل بالإجماع المجتمعي.
وبما أن الدعم السريع يفتقر إلى قاعدة سياسية خارج مناطق نفوذه، فإن شرعيته تظل مؤقتة ومهددة بالانهيار مع أي تغير في موازين القوة.

رابعاً: التعددية الانتقائية وإشكالية التمثيل

في الوقت الذي يرفع فيه الخطاب السياسي في مناطق الدعم السريع شعار “الاعتراف بالتعدد”، تظل الممارسة قائمة على تعدد الولاءات داخل الهيكل العسكري نفسه، لا على تعدد الرؤى أو المصالح المدنية.
فلا توجد أحزاب سياسية حقيقية، ولا مجالس تشريعية منتخبة، ولا مؤسسات رقابة مستقلة.

التعددية الحقيقية لا تعني وجود قبائل متعددة تحت راية واحدة، بل تعدد الأصوات في فضاء مدني حر.
في غياب هذا الفضاء، تصبح “التعددية” مجرد أداة لتجميل المركز العسكري لا لتوسيع قاعدة المشاركة.
هكذا يتحول الحديث عن التمثيل إلى وسيلة للسيطرة، لا أداة للتعبير.

خامساً: من عقلية المنتصر إلى عقلية التعاقد

يدعو بعض المفكرين السودانيين إلى ضرورة “تجاوز عقلية المنتصر”، لكن الواقع يشير إلى استمرار منطق الغلبة.
القوة المسلحة نادرًا ما تتنازل عن امتيازاتها طواعية، كما تُظهر تجارب الانقلابات في إفريقيا من الكونغو إلى مالي.

التحول من عقلية السيطرة إلى عقلية التعاقد يتطلب قوى موازية مدنية ومجتمعية قادرة على فرض التوازن، وهي حالياً شبه غائبة في مناطق النزاع.
بدلاً من ذلك، تتوزع المناصب داخل بنية الدعم السريع عبر محاصصة داخلية بين الفصائل المسلحة، مما يُعيد إنتاج الانقسام بدل تجاوزه.

سادساً: الدولة كمساحة توافق لا كمنطقة نفوذ

التأسيس الحقيقي للدولة لا يبدأ بإنشاء هياكل إدارية في مناطق النفوذ، بل بإعادة تعريف العلاقة بين السلطة والمجتمع.
فالدولة ليست حدوداً يُسيطر عليها السلاح، بل فكرة تقوم على العقد الاجتماعي، والمؤسسات المستقرة، والتداول السلمي للسلطة.

إن بناء الدولة في السودان يجب أن ينطلق من حوار وطني شامل يضم القوى المدنية والمجتمعية، لا من إعادة إنتاج مراكز نفوذ جديدة.
ربما يكون الطريق العملي هو إدارة المرحلة عبر هياكل خدمية محايدة ومؤقتة، تُشرف عليها لجان مدنية مستقلة، تحت رقابة أممية أو إقليمية، إلى حين الوصول إلى تسوية سياسية شاملة تعيد تعريف الدولة كمشروع وطني جامع.

حين تبقى الطوبى بعيدة

تظل محاولات “التأسيس” في مناطق الدعم السريع محكومة بحدود السلاح ومحدودية الشرعية.
فالدولة التي تُبنى من رحم القوة، تموت غالباً بنفس الأداة التي أنشأتها.
أما الدولة التي تُبنى على توافق الإرادات، وشرعية المجتمع، وثقافة الخدمة لا السيطرة، فهي وحدها القادرة على الاستمرار.

إن الطوبى ستظل بعيدة، ما لم يُبنَ الواقع على أسس التوافق لا الغلبة، وعلى عقد اجتماعي جديد يُعيد للسودانيين حقهم في دولة لا تحكمهم بالبندقية، بل تجمعهم بالمواطنة.

الراكوبة

مقالات ذات صلة

ترك الرد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

- Advertisment -<>

الأكثر شهرة

احدث التعليقات

Michael3572 على الفاشر مأساة وطن
عبدالقادر النصري عبدالقادر على اعلان تفاصيل استخراج الشهادة السودانية 2023
عبدالقادر النصري عبدالقادر على اعلان تفاصيل استخراج الشهادة السودانية 2023
مكاوي الغالي محمد علي على مبادرات وتبرعات لمساعدة متضرري الحرب