الإثنين, نوفمبر 10, 2025
الرئيسيةمقالات الرأيصمت المثقفين في السودان!.. بقلم محمد إسماعيل أحمد

صمت المثقفين في السودان!.. بقلم محمد إسماعيل أحمد

سودان تمورو:

بين الموقف الأخلاقي وواجب نشر الوعي.. ما الدور المنتظر من النخب السودانية في مواجهة أخطر أزمة تهدد بقاء الدولة والمجتمع؟

منذ اندلاع الحرب، لم يعرف صديقي أحمد وأسرته الصغيرة- التي تتكون من زوجته وطفليه الصغيرين، بالإضافة إلى والدته- معنى الاستقرار؛ إذ حملهم جميعا على عربة صغيرة، وتنقل بهم من مدينة إلى أخرى، فرارا من القصف والاشتباكات، وبحثا عن مأوى يُوفر لهم قليلا من الأمان. وكلما وصلوا إلى مكان ظنوه أكثر أمانا، اضطروا إلى مغادرته مجددا بعدما لحقتهم نيران الحرب.

هذه الحكاية ليست استثناء، بل تعكس مأساة يعيشها ملايين السودانيين: نزوحا وتشريدا وفقدانا للأمل. لكن وسط هذا الخراب، يطرح سؤال نفسه بإلحاح: أين يقف المثقف السوداني من كل هذا؟ وما مسؤوليته في مواجهة الكارثة؟

من خلال هذا المقال، أود أن أجيب عن هذا السؤال، إذ أرى أن للمثقف السوداني مسؤوليتين أساسيتين: اتخاذ موقف أخلاقي مما يحدث، وبث الوعي في المجتمع السوداني.

لست هنا في معرض محاكمة مواقف المثقفين، بل مناقشة ما ينبغي فعله لرفع معاناة المواطن السوداني، الذي يعاني من الحرب والتشريد والأمراض، وللحفاظ على المجتمع والدولة من التفكك والانهيار

المثقف ودوره في المجتمع

يمكن تعريف المثقف -بصفة عامة- بأنه كل شخص ينشط في المجال العام من أجل تغييره أو إصلاحه أو تسليط الضوء على جوانب تعيق تقدم المجتمع. ووفقا لهذا التعريف، فالمثقف ليس فقط الأكاديمي أو المتخصص في مجال بعينه، بل كل من يشارك في الفضاء العام برؤية ورسالة محددة. وهذا يشمل المفكرين والسياسيين والأدباء والصحفيين ورجال الدين والمؤثرين على وسائل التواصل الاجتماعي.

وبناء على ذلك، فالمثقف السوداني هو من ينشط في المجال العام السوداني، ويعبر عن رؤية تجاه الواقع السياسي والثقافي والاجتماعي بطرق متنوعة.

تلعب النخب والمثقفون في أي دولة دورا رئيسا في توجيه مجتمعاتهم، ومن ثم فإن فحص مواقفهم ونقدها أمران ضروريان، لأنهم يشكلون قناعات الناس، الذين غالبا ما يفتقرون إلى معرفة كافية بالقضايا العامة.

السودان في منعطف خطير

يمر السودان بمنعطف تاريخي خطير؛ إذ يشهد حربا ممتدة منذ نحو ثلاث سنوات، أودت بحياة عشرات الآلاف وتسببت في تشريد الملايين. بدأت الحرب كصراع على السلطة بين الجيش وقوات الدعم السريع، لكنها سرعان ما اكتسبت طابعا اجتماعيا وجهويا بفعل الاستقطاب الحاد. وهذا الاستقطاب يهدد نسيج المجتمع السوداني، حيث تفشت القبلية، وظهرت دعوات انفصالية تنادي بفصل أجزاء من البلاد.

في ظل هذا المشهد، يبرز السؤال: ما مسؤولية المثقف السوداني؟ وما الدور التاريخي الذي ينبغي أن يؤديه وسط هذا التهديد بالتفكك؟

قبل الإجابة، لا بد من الإشارة إلى انقسامات المثقفين السودانيين بسبب الحرب، إذ انقسموا إلى ثلاث فئات:

الأولى ناصرت الجيش باعتباره حافظا للدولة، والثانية دعمت قوات الدعم السريع؛ لأنها تقف ضد عودة النظام القديم، أما الثالثة فرفضت الحرب ودعت إلى العودة للمسار السياسي السلمي دون تأييد أي من الطرفين.

لست هنا في معرض محاكمة مواقف المثقفين، بل في مناقشة ما ينبغي فعله لرفع معاناة المواطن السوداني، الذي يعاني من الحرب والتشريد والأمراض، وللحفاظ على المجتمع والدولة من التفكك والانهيار. وأعتقد أن أهم مسؤوليتين تقعان على عاتق المثقف السوداني في هذه المرحلة هما: المسؤولية الأخلاقية ومسؤولية نشر الوعي.

يا للأسف، أفرزت الحرب واقعا مشوشا اختلط فيه السياسي بالاجتماعي والنفسي والأخلاقي، حتى فقد كثير من المثقفين بوصلتهم الأخلاقية، وغضوا الطرف عن الجرائم التي يرتكبها الطرف الذي يناصرونه

الموقف الأخلاقي

من أبرز مسؤوليات المثقف السوداني اليوم اتخاذ موقف أخلاقي واضح من الفظائع التي تُرتكب، حتى لو صدرت عن الطرف الذي يؤيده؛ فكرامة الإنسان لا يجوز المساس بها، وانتهاكها مرفوض أخلاقيا دائما، وإدانتها معيارٌ للمصداقية.

المثقف يمثل رمزا اجتماعيا وسياسيا، وله جمهور واسع يضم فئات متباينة من مؤيديه ومعارضيه. هذا الجمهور يراقب، عبر وسائل التواصل الاجتماعي، ردود أفعال المثقفين تجاه المجازر والانتهاكات التي تقع أثناء الحرب، ويريد أن يعرف موقفهم منها. يتساءل الناس: هل يستطيع المثقف أن يدين الجرائم، سواء ارتكبها الجيش أم الدعم السريع؟

إن فعل ذلك، كسب احترام الجميع، وهذا مهم في سياق الاستقطاب الإثني والقبلي الحاد. فإذا اتخذ المثقف الموقف الأخلاقي السليم، صار محل تقدير واسع، لأن السودان اليوم يعيش واقعا سياسيا واجتماعيا معقدا جعل كثيرا من الناس يصطفون قبليا وإثنيا. لذا تحتاج الساحة السودانية إلى مثقف مسؤول يقف مع الحق، ولا يخاف في قول الحقيقة لومة لائم.

لكن، ويا للأسف، أفرزت الحرب واقعا مشوشا اختلط فيه السياسي بالاجتماعي والنفسي والأخلاقي، حتى فقد كثير من المثقفين بوصلتهم الأخلاقية، وغضوا الطرف عن الجرائم التي يرتكبها الطرف الذي يناصرونه.

الفن -سواء كان غناء أو مسرحا أو رواية- قادر على تجاوز الانقسامات وفتح أفق إنساني مشترك

نشر الوعي

إلى جانب الموقف الأخلاقي، تقع على المثقف مسؤولية نشر الوعي في مواجهة العقلية القبلية التي تغذي النزاعات. فالحرب الأخيرة بدأت بخلاف مؤسساتي حول الوثيقة الدستورية ومدى المدة الزمنية لدمج قوات الدعم السريع في الجيش.

كان الخلاف في جوهره مؤسسيا، لكنه تحول مع الوقت إلى صراع جهوي وقبلي، إذ استُهدفت مجموعات بعينها على أساس انتمائها القبلي والإثني، كما حدث لقبيلة المساليت في مدينة الجنينة، واستهداف بعض أبناء غرب السودان في ولايتي الجزيرة والخرطوم. لذلك، يتوجب على النخبة السودانية التصدي لهذه النزعة القبلية من جذورها، إن كانت تطمح لبناء دولة مدنية خالية من الصراعات.

يمكن للمثقفين أن يسهموا في ذلك عبر توعية المجتمعات المحلية، بتذكيرها بروابطها الإنسانية والتاريخية والاجتماعية المشتركة. ولتحقيق ذلك، من الضروري أن ينشط أعضاء الجمعيات الثقافية والأدبية والأحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدني والمتطوعون في القرى والأرياف، وأن يتواصلوا مع الناس لفهم أساليب حياتهم وأنماط تفكيرهم.

ثم يمكن تأسيس جمعيات ومؤسسات ثقافية ورياضية تحتوي طاقات الشباب في المناطق النائية، بدلا من استيعابهم في مؤسسات قبلية قد تحولهم إلى وقود للصراعات.

كما ينبغي على المثقفين أن يحتفوا بالتنوع الثقافي والاجتماعي في السودان ويعكسوه في أعمالهم الفنية والأدبية. فالفن -سواء كان غناء أو مسرحا أو رواية- قادر على تجاوز الانقسامات وفتح أفق إنساني مشترك.

نحن في السودان بحاجة إلى أن نتعرف بعمق على ثقافاتنا المحلية المتنوعة، لأن الحرب الأخيرة كشفت جهل كثير من السودانيين بثقافات مناطق أخرى من بلدهم.

إن الحرب في السودان ليست مجرد صراع مسلح على السلطة، بل هي تهديدٌ وجودي لبقاء المجتمع والدولة

إن الفن والأدب يمكن أن يلعبا دورا محوريا في تعريف السودانيين بعضهم ببعض، وفي نزع روح التعصب القبلي ورفض الآخر.

قبل الحرب، أطلق الكوميدي محمد الفادني مع مجموعة من الفنانين مبادرة “مسرح على الهواء”، وهي عروض كوميدية تُقدَم في الأسواق والمدارس لمعالجة قضايا اجتماعية بطرق ساخرة وجذابة. مثل هذه التجارب، إذا انتشرت، يمكن أن تصبح وسيلة مؤثرة لتعزيز الوعي المجتمعي والحد من التوترات القبلية.

خاتمة

إن الحرب في السودان ليست مجرد صراع مسلح على السلطة، بل هي تهديدٌ وجودي لبقاء المجتمع والدولة. وعلى المثقف السوداني -إن أراد أن يكون جديرا بدوره- أن يجمع بين شجاعة الموقف الأخلاقي وجهد نشر الوعي. من دون ذلك، ستبقى الساحة فارغة لمن لا يملكون سوى منطق القوة والسلاح.

مقالات ذات صلة

ترك الرد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

- Advertisment -<>

الأكثر شهرة

احدث التعليقات

Michael3572 على الفاشر مأساة وطن
عبدالقادر النصري عبدالقادر على اعلان تفاصيل استخراج الشهادة السودانية 2023
عبدالقادر النصري عبدالقادر على اعلان تفاصيل استخراج الشهادة السودانية 2023
مكاوي الغالي محمد علي على مبادرات وتبرعات لمساعدة متضرري الحرب