خاص سودان تمورو
في مشهد يثير الدهشة ويعكس عمق التناقض السوداني الراهن، خرج مستشار قائد قوات الدعم السريع، عز الدين الصافي، ليبكي على ما وصفه بـ”قصف الجيش لمدنيين” قرب منطقة بلبل بجنوب دارفور، مطالباً المجتمع الدولي بإنهاء الإفلات من العقاب. وللوهلة الأولى قد يظن السامع أن المتحدث ناشط حقوقي أو صوت مدني نزيه، غير أن الحقيقة الصادمة أن هذا الصوت يخرج من فم أحد ممثلي الميليشيا ذاتها التي لطالما ارتبط اسمها بجرائم القتل والنهب والاغتصاب، من دارفور إلى الخرطوم.
التحقيقات الاستقصائية، ومنها ما نشره الصحفي محمد خليفة “خال الغلابة”، تكشف أن ما جرى في بلبل لم يكن استهدافاً لمدنيين، بل قصفاً لتجمع مجندين جدد للدعم السريع في إطار الحرب المشتعلة بين الطرفين. هنا يظهر جوهر المفارقة: ميليشيا اعتادت اتخاذ المدنيين دروعاً بشرية، وتحويل القرى إلى ثكنات والمستشفيات إلى مقار قيادية، ترفع الآن شعار “حماية الأبرياء” وتدعو إلى العدالة الدولية.
هذا المشهد ليس جديداً، بل امتداد لمسار طويل من تزييف الوعي واستنساخ الجريمة. فالدعم السريع، الذي ولد من رحم الجنجويد، مارس الفظائع على نطاق واسع في دارفور لسنوات وسط صمت العالم، وها هو اليوم يحاول غسل يديه الملطختين بالدماء عبر خطابات براقة عن حقوق الإنسان. لكنه تناقض صارخ، إذ كيف يطالب من تشرّب ثقافة الإفلات من العقاب بمحاسبة الآخرين؟ وكيف يشتكي من العطش من يقف على ضفاف نهر من الدماء؟
إن أخطر ما في هذه الحرب ليس فقط الرصاص والمدافع، بل معركة الروايات التي تسعى لخلط الأوراق وتضليل الرأي العام. الدعم السريع يريد تصدير صورة جديدة لنفسه كطرف شرعي في المعادلة السياسية، لكنه لا يستطيع إخفاء هويته الحقيقية: ميليشيا ارتكبت وما زالت ترتكب أبشع الجرائم بحق شعبها، وتدين بالولاء لقوى خارجية تبحث عن مكاسبها على حساب دماء السودانيين.
اليوم، المطلب الملح ليس الاستماع إلى صرخات التضليل، بل توجيه بوصلة المجتمع الدولي نحو تحقيق مستقل وشفاف يضع كل الأطراف أمام مرآة الحقيقة. فلا الجيش معفي من المحاسبة إن استهدف مدنيين، ولا الدعم السريع يمكن أن يُغسل ببياناته من تاريخه الأسود. المطلوب هو عدالة شاملة لا تستثني أحداً، ومساءلة لا ترحم أي يد امتدت على دم الأبرياء.
لقد آن الأوان لوقف هذه المسرحية الهزيلة التي يطل فيها القاتل بوجه الضحية. آن أوان أن يدرك المجتمع الدولي أن كلمات الدعم السريع ليست سوى أداة حرب، وأن دموعه المصطنعة لا تخفي جرائمه الموثقة. أما الشعب السوداني، فقد أصبح أكثر وعياً من أن تنطلي عليه تلك الأكاذيب، وهو يعرف جيداً من ذبحه بالأمس ومن يحاول اليوم أن يذرف عليه دموع التماسيح.