سودان تمورو
في لحظة مفصلية، وفي ذروة حرب الإبادة التي يتعرض لها قطاع غزة، جاء ردّ حركة حماس على مقترح الرئيس الأمريكي دونالد ترامب كخطوة تحمل أبعادًا سياسية واستراتيجية أبعد بكثير من مجرد نص بيان دبلوماسي. لقد كان الرد “نعم مشروطة” لا تعني قبولًا مطلقًا ولا رفضًا قاطعًا، بل مناورة متقنة تُحافظ على الحد الأدنى من الثوابت الوطنية، وتفتح الباب أمام وقف القتال، دون أن تمنح الاحتلال وحلفاءه نصرًا سياسيًا مجانيًا.
لغة البيان كانت شديدة الذكاء: الموافقة على الإفراج عن الأسرى مقابل وقف الحرب وانسحاب الاحتلال الكامل، قبول تسليم إدارة القطاع لهيئة فلسطينية من التكنوقراط بغطاء وطني جامع، وربط كل الملفات المصيرية الأخرى بموقف فلسطيني موحّد يستند للشرعية الدولية. بهذه الشروط رسمت الحركة خطوطًا حمراء واضحة، وأعادت تعريف سقف التفاوض، بحيث بدا البيان وكأنه يقول: “لن نغلق الباب، لكننا لن نُدخل الاحتلال إلا من البوابة التي نختارها نحن.”
واقع الحال يفرض نفسه بقسوة: أمام حماس خياران لا ثالث لهما؛ إما استمرار المجزرة والتجويع والاغتيالات، أو الدخول في تسوية مؤقتة تحقن الدماء وتفتح مجالًا للمناورة. ترامب نفسه اختصر الأمر بتهديد صريح: “إذا رفضت حماس الاتفاق فستفعل إسرائيل ما يجب عليها فعله.” بهذا المعنى، لم يكن أمام الحركة ترف الرفض المطلق، بل كان عليها أن تتحرك بذكاء داخل هامش المناورة الضيق، لتنتزع على الأقل إنجازًا مرحليًا يُجمّد آلة القتل ولو مؤقتًا.
لكن هذه ليست سوى بداية الطريق. قبول المقترح إجمالًا لا يعني نهاية الأزمات، بل انتقالها إلى مستوى جديد. الداخل الفلسطيني مقبل على جدل محتدم حول الهيئة التكنوقراطية، وحول من يملك الشرعية ومن يُدير المرحلة المقبلة. إقليميًا، فإن قبول حماس سيُتيح لإسرائيل وأمريكا التفرغ لجبهات أخرى: لبنان، سوريا، وربما إيران. إن سكون جبهة غزة لا يعني سلامًا، بل مجرد إعادة تموضع للصراع في جبهات أخرى.
البيان إذاً ليس نهاية بل انعطافة. هو “نعم تكتيكية” تحاول أن توازن بين الواقع المرير والحد الأدنى من الثوابت. حماس تعلم أن أي اتفاق لن يكون خاتمة للصراع، بل مقدمة لفصل جديد من المواجهة، حيث يظل جوهر القضية الفلسطينية عصيًّا على الطمس مهما كانت الضغوط.
الأسئلة الآن لا تتعلق بالقبول أو الرفض فقط، بل بمدى قدرة الحركة على استثمار هذا الهامش الضيق، وتحويل “الموافقة المشروطة” إلى أداة للمناورة بدل أن تتحول إلى قيد يطوّقها. هل نجحت حماس في انتزاع أقصى ما يمكن تحقيقه سياسيًا ضمن هذا الوضع الكارثي؟ أم أن ثمة مجالًا أوسع للمناورة كان بالإمكان استثماره؟ الجواب سيأتي من الأيام المقبلة، حيث يتضح إن كان هذا البيان بداية انفراج، أم مجرد هدنة قصيرة قبل جولة أشدّ قسوة من الصراع.